Enter your keyword

الذاكرة الفائقة ليست حكرًا على أحد

الذاكرة الفائقة ليست حكرًا على أحد
  • Comfort
  • Light
  • Grey
  • Dark

الذاكرة الفائقة ليست حكرًا على أحد

لا يختلف صفوة الأبطال في رياضة الذاكرة عن أقرانهم في أية رياضة أخرى؛ فهم يخوضون غمار منافسات شرسة يُظهرون فيها مهاراتٍ تبدو خارقة، مثل حفظ سلسلة طويلة من الأرقام تتكون من 500 رقم في خمس دقائق. وأغلبهم يعزو نجاحه في ذلك إلى الساعات الطويلة من التدرُّب على أساليب حفظ المعلومات واستظهارها، ولكن يبقى السؤال: هل ينجح أبطال الذاكرة في ذلك بالتدريب وحده أم أنهم موهوبون على نحو ما؟ تحمل الأبحاث الحديثة في هذا الصدد بريق أمل بالنسبة لنا. فالدراسة التي نشرتها دورية “نيورون” Neuron في شهر مارس 2017 تقدم أدلة جازمة على أن أغلب الأشخاص يمكنهم أن يتعلموا أساليب الاستظهار التي يستخدمها أصحاب الذاكرة الفائقة ويطبقوها بنجاح، ويطلقوا -في الوقت نفسه- سلسلة من التغيُّرات واسعة النطاق في الدماغ.

       استخدم فريق يقوده مارتن دريسلر في جامعة رادبود في هولندا مزيجًا من الاختبارات السلوكية وفحوصات الدماغ لمقارنة أبطال الذاكرة مع الأشخاص العاديين. وتوصل الفريق إلى أن أفضل أبطال الذاكرة لديهم نمط مختلف من التوصيلات الدماغية مقارنة بأفراد المجموعة الضابطة، وإلى أن مهارات الذاكرة تحسنت كثيرًا لدى الأفراد المشاركين في التجربة الذين تعلموا نهجًا شائعًا في الاستظهار لبضعة أسابيع، وليس سنوات، وبدأت تظهر لديهم أنماط في توصيلات الدماغ مشابهة للصفوة من أبطال الذاكرة.

       الكثيرون منا يكتسبون ويتعلمون مهارات جديدة على مدار حياتهم، ولطالما تساءل العلماء عما إذا كانت أدمغتنا تتغير نتيجة لذلك، وكيفية حدوث تلك التغيرات. وقد ربطت الأبحاث السابقة بين بعض المهارات وتغيرات محددة تحدث في الدماغ؛ فقد أكدت مجموعة معروفة من الدراسات أن سائقي التاكسي في لندن تزيد لديهم المادة الرمادية في منطقة الحصين (وهي منطقة دماغية مرتبطة بالذاكرة) في أثناء اكتسابهم المعرفة المطلوبة للتنقل في المتاهة العشوائية من شوارع لندن. وقرر دريسلر وزملاؤه -مدفوعين جزئيًّا بتحفيز من بوريس كونراد، مدرب الذاكرة المحترف والمؤلف المشارك في الدراسة- التركيز على صفوة الرياضيين في رياضة الذاكرة الذين يستخدمون أساليب ووسائل الحفظ والاستظهار للتنافس في مهام محددة للغاية مثل استظهار مجموعة من البطاقات أو أسطر من الأرقام الثنائية في دقائق. وأراد فريق البحث معرفة ما إذا كان هؤلاء المتمرسون الماهرون تظهر لديهم تغيرات دماغية ملحوظة وكيفية حدوث تلك التغيرات.

       في الجزء الأول من الدراسة، عمل الباحثون على مطابقة مجموعتين وفقًا للعمر والنوع ومعدل الذكاء، المجموعة الأولى تضم 23 شخصًا من صفوة أبطال الذاكرة، والثانية مجموعة ضابطة تضم أشخاصًا عاديين. وخضعت كلتا المجموعتين لسلسلة من المسوحات الدماغية، والتي تشمل مسوحات تشريحية والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي في وضع الاسترخاء –أي لا يمارس المشاركون في التجربة أي نشاط– وفي أثناء أداء مهمة تعتمد على الذاكرة. وقد وجد الباحثون أن أبطال الذاكرة لا يختلفون عن أفراد المجموعة الضابطة في أي منطقة دماغية بعينها، ولكن لديهم أنماطًا مختلفة من التوصيلات الدماغية ظهرت في التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي خلال فترة الاسترخاء وفي أثناء أداء مهام تعتمد على الذاكرة. وبالنسبة لدريسلر، فإن هذه النتائج تشير إلى أنه “لا يوجد اختلاف عام في تكوين الدماغ لدى أبطال الذاكرة يتيح لهم الوصول إلى هذه المستويات من مهارات الذاكرة، ولكن هناك شيئًا أكثر دقة يحدث”، الأمر الذي حث الفريق البحثي على إجراء المزيد من الأبحاث.

       بعد ذلك، أخذ الباحثون 51 شخصًا لم يسبق لهم خوض أي تدريبات على الذاكرة وقسموهم إلى مجموعة تجريبية ومجموعتين ضابطتين. وخضع المتطوعون في المجموعة التجريبية على مدار ستة أسابيع لتدريب مكثف على الذاكرة لمدة نصف ساعة يوميًّا باستخدام استراتيجية المواضع المكانية (Loci Strategy) التي يرجع استخدامها إلى عدة قرون وتحظى بشعبية كبيرة بين أبطال الذاكرة. كما تعلم أفراد العينة كيفية ربط المعلومات الجديدة مثل الأرقام أو الأسماء بمواضع مكانية مألوفة كالتي في منازلهم. بينما تدربت المجموعة الضابطة النشطة على تدريبات الذاكرة العاملة المعروفة باسم “N-Back” التي لا تدرب الذاكرة طويلة المدى، في حين لم تخضع المجموعة الضابطة غير النشطة لأي تدريب.

       بعد التدريب، تحسن أفراد المجموعة التجريبية تحسنًا ملحوظًا في مهام الذاكرة (بينما لم تتحسن مهارات أي من المجموعتين الضابطتين)، غير أنه لم تظهر عليهم أي تغيرات دماغية بنيوية. ولكن أنماط الوصلات الدماغية في التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي خلال وقت الاسترخاء وفي أثناء أداء بعض المهام أصبحت أشبه بمثيلاتها لدى أبطال الذاكرة، وهو تغيير يرتبط ارتباطًا إيجابيًّا بتحسُّن الذاكرة. ويقول دريسلر: “أعتقد أن الأمر المثير للاهتمام هنا لا يتمثل فقط في إمكانية تعزيز الذاكرة بطريقة مشابهة سلوكيًّا في الأشخاص العاديين مقارنة بالنخبة من أبطال الذاكرة، ولكن أيضًا في أننا نرى على مستوى الدماغ انعكاسًا لتلك الزيادة السلوكية، وأنه يمكن تحويل دماغ الإنسان العادي إلى أنماط مماثلة لصفوة أبطال الذاكرة في العالم”.

       يرى جيمس مجو -أخصائي البيولوجيا العصبية في جامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين، والذي لم يشارك بالدراسة- أن هذه الدراسة تتفق نتائجها مع الأبحاث التي أُجريت على سائقي التاكسي في لندن، لكنه يسلط الضوء على اختلاف شديد الأهمية؛ فبدلًا من تحديد منطقة دماغية بعينها، اكتشفت الدراسة الحالية تغيُّرًا عامًّا في الوصلات الدماغية. ويضيف مجو: “إن جميع أجزاء الدماغ تتميز بالمرونة طوال الوقت، وهذا دليل آخر على ذلك. فإذا تعلمت شيئًا وأتقنته جيدًا، فإن الدماغ يتغير تبعًا لذلك”.

       وبالنسبة لزميل جيمس مجو في جامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين، كريج ستارك -أستاذ البيولوجيا العصبية والسلوك والذي لم يشارك في الدراسة أيضًا- فإن هذه الدراسة تمثل “إسهامًا مثيرًا للاهتمام للغاية في هذا المجال”. غير أن ستارك بُهِر بوجه خاص بالتصميم التجريبي العبقري للدراسة، والذي يتوقع أن يتبناه الباحثون في المضمارات الأخرى. وقال إن النتائج تتسق مع فكرة أن دماغ الإنسان مرن للغاية ويتغير ويتكيف باستمرار، وأضاف: “هذا يثبت أن تعلُّم شيء جديد يغير الدماغ، ويغير الطريقة التي نستوعب بها الأشياء، وبالتالي يغير نظرتنا للعالم”.

بقلم: كاثرين كاروسو