ذاكرة الإنسان إعجاز وبيان
الذاكرة هي الركيزة الأساسية للعقل، وعندما نفقد الذاكرة لا نعلم من نكون؟ ومنذ قدومنا للحياة فكل ما نحسه أو ندركه يُسجل في الذاكرة، قد يتوارى بسبب الغفلة والإهمال لكنه لا يُمحى، والذاكرة هي ركن التعلم، فاكتساب المعلومات وتخزينها واسترجاعها هي أعظم وظائف الدماغ.
تعريف الذاكرة:
البعض يُعرَّف الذاكرة بأنها العملية التي تحفظ المعرفة على مر الزمن. وهناك من يُقيِّم الذاكرة كوعاء حي، وتستقر المعلومة ـ التي يتعرف عليها العقل ـ في ذلك الوعاء الذي يسمى بالذاكرة (الحافظة( وقد اتفق العلماء على تعريف بسيط للذاكرة فقالوا:
“هي القدرة على تذكر التواريخ والوجوه والحقائق والمعلومات والأشكال والمعطيات.”
لذلك فإن الذاكرة العقلية مفيدة لك في كل الأحوال ليس فقط في تحصيل دروسك وأداء اختباراتك ولكن أيضاً في علاقاتك الاجتماعية ومواقفك في محيط العمل.
وتقوم الذاكرة القوية بحفظ جميع المعلومات تماماً مثلما يقوم جهاز الكمبيوتر الشخصي بحفظ المعلومات المتاحة بأمان. فليس هناك ذاكرة ضعيفة كما يعتقد البعض بذلك، لكن في الحقيقة أن هؤلاء الأفراد يمتلكون ذاكرة غير مدربة.
والذاكرة هي الركيزة الأساسية للعقل وتُكوِّن العمود الفقري لشخصية الإنسان. وهى شديدة الالتصاق بالمخ الذي هو أداة العقل في الحياة الدنيا. ولسنوات عديدة مضت راجت فكرة خاطئة تعتبر الذاكرة ككيان منفرد يمكن تعيينه في بنية بعينها، لكن الفكر السائد الآن هو أن الذاكرة تتألف من مقومات عديدة محملة على شبكة موزعة من الخلايا العصبية.
وعندما تكون الذاكرة فارغة أو مفقودة يتعذر أن نعرف من نكون ونصبح تحت رحمة أي مؤثر خارجي. وفقدان الذاكرة يؤدي إلى تلاشي ذات الإنسان وتاريخ حياته وعلاقاته بمن حوله.
الحقيقة المؤكدة أن ما تتلقاه الحواس هو أضعاف ما يعيه العقل أو الذي يستقر في الذاكرة. والرأي السائد هو أن كل ما نحسه أو ندركه يُحفر (يسجل) فى الذاكرة بكيفية لا نعرفها.
ومن شهادات التسجيل بالذاكرة قولك: هذا مشهد لن أنساه. ولكن الحقيقة أنه لم يفقد بدليل أن صورته لو عرضت عليك ستتذكره، وأيضا ربما تحسب أن جملة ما قد ضاعت في الذاكرة وإذا بها في سياق الحديث تطفو على السطح وكأنها جاءت من سفر دون أن نستدعيها.
وبغض النظر عن نوعية ما نتذكر فإن الإنسان يشعر بشيء من الرضا لمجرد قدرته على التذكر.
كما يشعر بشيء من عدم السرور حين يشعر بأن ذاكرته قد بدأت تضعف ولا تسعفه رغم تأكده من وجود المعلومة المطلوبة بالذاكرة ويقول: سأتذكرها حتما.
فالمعلومات التي يتذكرها الإنسان لا تُمحى لأنها شاهد له أو عليه ومرتبطة بسجل عمله الذي سيجده حاضرا يوم القيامة (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسَانُ مَا سَعَى) (النازعات: 35(
وللعلم فإن المعلومات التي يبدو أن النسيان قد طوى صفحاتها هي في الحقيقة ما زالت موجودة بالذاكرة ولكن لكي تظهر يلزمها مساعدة إظهار (استرجاع(
وهنا يمكن أن نميز ثلاث وظائف رئيسية للذاكرة: استقبال المعلومات، حفظ المعلومات، استرجاع المعلومات.
أشكال الذاكرة:
يقسم (برتراندرسل) في كتابه (تحليل العقل) الذاكرة إلى قسمين:
1- ذاكرة العادة: والعادة هي الميل إلى أداء عمل من الأعمال نتيجة التكرار حتى يصبح هذا العمل آلياً كالمشي والكتابة وتناول الطعام وما إلى ذلك، ويتجه معظم علماء النفس المحدثين إلى إخراج هذه الأعمال الآلية من ميدان الذاكرة التي يقصرونها على الأمور التي ندركها مع شعور ومعرفة، إلا أن البعض الآخر قد عد هذه الأعمال العادية من جملة الذاكرة وفسروا اختلالها بالنسيان ولو أنه صادر عن اللاشعور.
2- ذاكرة المعرفة: ويضيف بعض العلماء إلى هذا النوع نوعاً ثالثاً هو:
3- الذاكرة الوهمية: وهي التي تظهر عند الطفل في بداية شأنه وعند المريض الذي يهذي وعند النائم الذي يحلم، ذلك أن الصور التي تتتابع في الأحلام والهذيان تبعث مشاهد من الماضي ولكن صاحبها لا يراها قطعة من الماضي بل جزءاً من الحاضر لأنها بالنسبة له حين يهذي أو يحلم حاضر وواقع، ذلك أن الذاكرة في الحلم تعيش فيه كأنه هو الحقيقة. وقد يعمد الحالم في حلمه إلى حد يبعثه إلى الحركة فينهض من فراشه ويأتي أعمالاً كثيرة.
وعلى أي حال فهناك تقسيم يقول إنه توجد ذاكرة نشطة ـ (عليا) أي تحتوي المعلومات الحاضرة والمهمة من وجهة نظر صاحبها وهي التي يرتكز عليها تعاملنا، وهى قريبة الشبه بالنافذة التي تتعامل مع العالم من خلالها أخذا وعطاء.
وفى المقابل توجد ذاكرة للمعلومات الخاملة أو المتروكة.
و(ذاكرات) بين ذلك كثيرة ومتفاوتة النشاط والحضور منها:
الذاكرة الوسطى: أي التي تحتوي المعلومات والأحداث التي تتكرر أو سبق أن تكررت أو أثيرت كثيرا.
ويوجد تقسيم أكثر قبولا أو شيوعا يصنف الذاكرة الصريحة إلى ثلاثة أنواع:
ذاكرة فورية: وهى الذاكرة المعنية بالأحداث التي تقع في المدن من عدة ثوان إلى ساعات أو أيام وهى التي تلتقط بها أو فيها الكلمات التي تقرأها الآن، فهي تتعامل مع الأحداث الجارية ويُحفظ فيها رقم التليفون الذي تلتقطه من الدليل لتطلبه الآن … وهذه الأشياء تُنسى بسرعة عادة خلال دقائق أو ثوان.
ذاكرة متوسطة الأمد (المدى(: وتتضمن الوقائع الجارية حتى يتم تثبيتها وتحويلها للذاكرة طويلة المدى.
ذاكرة طويلة الأمد:وتتضمن المعلومات المتعلقة بالماضي والماضي البعيد. وهى الأرسخ، وهى التي تقاوم وتعمل مع وجود تلفيات في المخ وتستمر طول الحياة.
الذاكرة العاملة:
وتحــدث فـى مكــــان مـــن الدمــــاغ يسمى الفص قبل الجبهى من القشرة المخية. ويحدث فى هذه الذاكرة التفاعل الفوري بين ما تستقبله الآن والمعلومات ذات الصلة التي تسترجع لحظيا للاستكمال أو المقارنة أو الربط لتوليد أفكار جديدة أو اتخاذ قرار فوري.
ولذلك تعتبر الذاكرة العاملة ضرورية جدا لفهم اللغة والتعلم مما يجعل البعض يشبهها بالسبورة أي إنها (لوح كتابة) العقل.
الذاكرة الترابطية:
وهي التي تقوم بتخزين البيانات لأمد بعيد دون تشغيل إلى حين يستدعيها العقل في عمليات حاضرة.
الذاكرة البصرية… والذاكرة السمعية: يمتلك بعض الأشخاص ذاكرة بصرية قوية حيث يمكنهم أن يتذكروا جيداً ما يرونه بأعينهم مجرد مرة واحدة.
ويمتلك آخرون ذاكرة سمعية قوية حيث يتذكر الشخص منهم ما يسمعه جيداً.
فإذا ما قرأ أحد شيئاً بصوت مرتفع على مسمع منه استطاع هذا الشخص حفظه وترديده في أي وقت.
الذاكرة الشمية: وإلى جانب هذه القدرات هناك قدرات لأنواع مختلفة من الذاكرة تتوفر لدى هؤلاء الذين يمتلكون ذاكرة قوية للأشياء التي يشمون رائحتها فأنت تستطيع أن تحدد نوع الطعام الذي يطهى في المطبخ والمكونات التي تضاف إليه على الرغم من أنك تجلــس في حجرة المعيشــة وقد يكون ذلك أمرا طبيعيا ولكن من النادر أن يتوفر لدى الكثير من الناس، كهذه التي يتمتع بها العطار العجوز حيث يستطيع التعرف على مكونات أنواع البخور المختلفة بمجرد شم رائحتها وقد تصل بعض مكوناتها إلى عشرة أصناف ومن الواضح هنا ذاكرة العطار مرت بتدريبات طويلة.
ومع ذلك فإن الذاكرة المتعلقة بالأنف عند بعض الكلاب أرقى بكثير منها عند الإنسان فنجاح كلب الشرطة في مطاردة اللصــوص وضبطهم يرجــع إلى حاسة الشم القوية لديهم وهناك ذاكرات قوية أيضاً بالنسبة لحواس أخرى يتمتع بها الإنسان مثل ذاكرة التذوق باللسان وذاكرة اللمس فالأشخاص الذين فقدوا حاسة البصر لديهم عادة حاسة اللمس قوية جداً ويعتمدون عليها اعتمادا كبيرًا في تحديد الأشياء والتعرف عليها.
ذاكرة الحيوان والنبات:
وتظهر الذاكرة مع أدنى الكائنات الحية وذلك لأن الكائنات النباتية والحيوانية الأولية تحتفظ بآثار التغييرات التي تؤثر فيها.
فهناك زهور تتحرك مع الضوء في النهار فتظل حركتها بعض الوقت حتى بعد حلول الظلام، وتظهر بعض الحيوانات المائية على رمال البحر مع الجزر وتعود إلى الماء مع المد ,فإذا وضعت في إناء زجاجي استمرت تفعل الحركة نفسها الدورية عدة أيام.
فقد درس الدكتور مارتن نوعاً من الديدان يعيش على شاطئ المانش يسمى (كونفولوتا) وأثبتت التجارب وجود هذه الدورات الحيوية واستمرارها حتى بعد انعدام المؤثر الذي يحدثها.
وتتبع العلماء نشأة الذاكرة في أنواع الحيوان كالأسماك والطيور والثدييات المختلفة من حيث الحفظ والاكتساب كذلك.
هل هناك ذاكرة ضعيفة وأخرى قوية؟
ليست هناك ذاكرة قوية وأخرى ضعيفة كما يعتقد البعض لكن الحقيقة أن هؤلاء الأشخاص يملكون ذاكرة غير مدربة فالمعلومات التي يبدو أن الإنسان قد طوى صفحاتها ما زالت موجودة بالذاكرة ولكن لكي تظهر يلزمها إظهار (استرجاع)، وتتضمن المعلومات المتعلقة بالماضي والماضي البعيد؛ وهي الأرسخ وهي التي تقاوم وتعمل مع وجود تلفيات في المخ وتستمر طوال الحياة.
الفرق بين الذاكرة والتخيل:
تشمل الذاكرة الصور التي سبق إدراكها في الماضي واختزنتها الذاكرة كما تحتفظ الخزانة بالأشياء…
فالتذكر في هذه الحالة واقع.
أما التخيل فليس بواقع ونحن أحرار أن نتخيل ما نشاء.
وفي ذلك يقول كانط: (إذا تخيلت منزلاً ففي إمكاني أن أتمثل السقف في أسفله والأثاث في الهواء؛ ولكن حين أتذكر منزلاً فأساسه دائماً أسفل وسقفه في الهواء) هذا هو الفرق.
بقلم: د. محمد السقا عيد
No Comments